الأربعاء، 9 فبراير 2011

تصاوير على حواشي القلوب..وإرهاصات الثورة الفكرية


بسم الله الرحمن الرحيم

" فبما نقضهم ميثاقهم، وكفرهم بآيات الله، وقتلهم الأنبياء بغير حق".


وقولهم : قلوبنا غلف!! بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا".

صدق الله العظيم

مقدمة

لقد كان الشعب السوداني رائدا وسابقا ، لشعوب الأرض قاطبة، في قيام شعب أعزل بثورة تزيل نظاما عسكريا مدججا بالسلاح،وذلك في حد ذاته عمل عظيم وفريد يستحق التمجيد، من كل الأحرار، الحادبين على خير الأنسانية، وتقدمها وإزدهارها.

بيد أنه لهذه الثورات محاذيرها، لأنها قد تفشل، وإذا نجحت فإنها تنجح على أشلاء بعض الضحايا، وتخريب بعض الممتلكات العامة، هذا فضلا عن أنها ليست ثورة، بالمعنى العميق للكلمة، الذي يستهدف التغيير الجذري والذي يقلب الأوضاع رأسا على عقب، لأنها مجرد إنتفاضة عاطفية، يفجرها الأيفاع من الشباب، كرد فعل للفساد القائم،والتخبط الماثل أمام أعينهم.

ثم إنها فوق هذا وذاك، و لدى التحليل الأخير، ثورات خارجية، تبدأ من الآفاق وتنتهي في الآفاق، ثم إنها ثورات قابلة للسطو من سدنة القديم، لإفتقارها للوعي بأصل المشكلة، ولقد حدث هذا للشعب السوداني مرتين، مرة في أكتوبر 1964، ومرة في أبريل 1985

لقد أدى الفهم الخاطئ للإسلام، والسياسات غير المدروسة، والتخليط المزري للعهد الراهن، إلى فصل الجنوب عن الشمال، بصورة موجعة لقلب كل حر، يجري في دمه، حب أهله وحب وطنه.

لقد فضل الجنوبيون بنسبة ساحقة، الخروج من الدولة الدينية التي تستغل الدين لأغراض السياسة، وتهدر الحقوق الأساسية للمواطنين، وتعزل السودان عن بقية العالم، تنفيذا لبرامج الهوس الديني الذي سود وجه البسيطة، بالفهم الخاطئ للإسلام.

إن الدين أسمى وأرفع من الدولة، وإن فصل الدين عن الدولة، يؤدى إلى تعظيم الإسلام وتكريمه، ويؤدي إلى إستقرار الدولة وتنظيمها، وما الحكومة الدينية ألا فكرة خاطئة، شقي بها المسلمون، منذ إلتحاق نبي الإسلام العظيم بالرفيق الأعلى، ثم ساروا بها في شعاب التاريخ، في حروب دينية، سفكت فيها الدماء، في سبيل الملك العضوض وفي سبيل الجاه والمال والسلطان... وقد يستغرب الكثيرون، إذا علموا أن فكرة الحكومة الدينية، ليس لها سند، في كتاب الله الكريم، ولا في سنة نبيه المطهرة، وسوف نثبت ذلك بالإدلة القاطعة، والنصوص الحاسمة، في مقالات سوف تأتي تباعاً.

فهل يتعلم السودانيون من تجاربهم السابقة ، حتى لا يلدغوا من جحر مرتين؟

هل يمكن أن يكون شعب شمال السودان، رائدا ومعلما، لبقية شعوب الأرض، في تفجير الثورة الفكرية التي تبدأ من الداخل، من القلب السليم والعقل الصافي، ثم تمتد إلى الخارج، فتملأ الأرض نورا وكمالا وحرية ... ثورة تبدأ من الأعماق، ثم تتفجر في الآفاق..؟؟.

ثورة سلمية هادئة، لا تسفك فيها الدماء، ولا تخرب فيها الممتلكات العامة... ثورة لا تستند على المظاهرات ، ولا على المواكب.

ثورة فكرية ناضجة، تقوم على الفهم والدراسة، والتأمل والتعمق... ثورة تلحق الهزيمة النهائية بالتفكير الديني السلفي، الذي أعلن فشله وتخبطه في السودان وفي إيران وفي أفغانستان وفي الصومال، وهو يحاول الآن سرقة ثورة شعبي تونس ومصر... ثورة تأتي لحكام الخرطوم من حيث لا يحتسبون!! لقد إحتسبوا المال والسلاح، والسياسة، والمكر والدهاء، ولكنهم لم يحتسبوا الله العظيم... الآن بدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون.

لقد ظن حكام العهد الراهن أنهم سينفردون بالشمال، وسوف يطبقون عليه قوانين سبتمبر المذلة، وأفكار الأخوان المسلمين، ومن لف لفهم في الفهم الخاطئ للإسلام، ولكن المفاجأة الكبرى، أن هزيمة الفكر السلفي الحاسمة والنهائية، سوف تكون في شمال السودان، وسوف تكون من داخل المصحف،وبآيات القرآن التي تهد الجبال، و كفى بالله حسيبا، وكفى بالله شهيداً.

هل ينجح السودانيون في وضع الحجر الأساسي، لثورة الثوار الأحرار، بدون مال وبدون سلاح، وإنما بالثقة في الله العظيم والتوكل عليه ، والتسلح بسلاح النور والحق والكمال؟.

مساهمة مني في هذه الثورة، أدفع إلى القارئة الكريمة، والقارئ الكريم، بهذا المقال، والذي تتلوه مقالات أخرى، إن شاء الله، تستهدف نشر ثقافة جديدة، تقتلع العنف من جذوره، وتزلزل كل أركان التفكير الديني السلفي، وتلحق به الهزيمة النهائية الشاملة، ثم يهدي نورها خطوات الصلاح.

هذا الموضوع موضوع، عرفاني، كتبته قبل مدة قصيرة، يلقي بعض الضوء على مواضع الخلل والنقص في دواخلنا، وعلى مواضع الكمال والوعي الكامنة في قلوب الناس جميعا، وأول الغيث قطرة.

صبح الظهور

ظل موضوع "تصاوير على حواشي القلوب" يلمع في عقول العارفين الفينة بعد الفينة، ، ويطوف بقلوبهم ساعة بعد ساعة، فيشرح الله صدورهم العوالي، بلطائف المعاني، في عسعس الليالي... ولكن الله فالق الإصباح كان يحبس تنفس صبحه، ويؤجل مفاتح فتحه، ويرجئ بزوغ شمسه، ويرجع تبلج نوره، حتى حان حينه، ودنت قطوفه.

الآن، سطعت الواردات السابحات السابقات، والعاديات ضبحا ، فالمغيرات صبحا... صبحا يتحدر نوره من الأعماق إلى الآفاق، نشوانا طربا، جزلان فرحا، يسابق هذا الصباح الجميل المبارك، في سبح عجيب، وفي فقه أعجب: " وإن من شئ إلا يسبح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم"

كل من نزع للغرق في بحر الروح، نشط عقله، كأنما حل من عقال: " والنازعات غرقا* والناشطات نشطا"... بفضل الله، وبفضل هذا النشاط يدرك الناس فقه هذا التسبيح... ومن أدرك فقه التسبيح، أدرك أن الله قد دبرمسبقا أمرا: " والسابحات سبحا* فالسابقات سبقا* فالمدبرات أمرا".

الحمد الله المنعم المتفضل، الذي يدبر الأمر، يفصل الآيات، لعلكم بلقاء ربكم توقنون... ومن روض هذا اللقاء، ومن قبس هذا الإيقان، نفحت ريحانة الأسرار، فأتحف الله أحبابه الأبرار، بكلما يحبون ويرضون ، حتى إكتملت مقالات عديدة، كان آخرها مقال "الحدود" الذي ختمه الله مدبر الأمر بحديث عن " الأخوان".

وبالرغم من أن بداية المحققين دوما محرقة، إلا أن نهايتهم دوما مشرقة، وذلك من فضل الله علينا وعلى الناس... فإذا أدركت أن البداية هي النهاية، أدركت أن الإحراق يلازم الإشراق في كل لحظة، وأن الوتر أعني الله، يعانق الشفع أعني الإنسان، في كل حين وفي كل آن، فتموت الأحزان: " لا تحزن إن الله معنا" ويذوب المخلوق في الخالق، في إستواء محرق خارق، لا ترى فيه أرضا ولا سماء، وهذا هو معنى قول الشيخ الأكبر محي الدين:

فإن بالفكر إذا ما استوى في أجلدي يتقد الجمر

فيصبح الكل حريقا فلا شفع يرى فيه ولا وتر

الحمد لله المنعم المتفضل، فقد كان الختام مسكا، إذ أن حديث الأخوان تضرب جذور كلماته في أرض المعاد، تحت شجرة الرضوان، حيث يؤلف المؤمن بين قلوب المؤمنين: "وألف بين قلوبهم" والمؤمن إسم من إسماء الله الحسنى، ومن هنا عرف العارفون أن المؤمن الحقيقي هو الله العظيم، فلا يؤمن بالله إلا الله، ولا يفل الحديد إلا الحديد، فبأي آلاء ربكما تكذبان!! بالله من غير قيود، أم بالإنسان عقل الوجود!! أم بنزول الروح الأمين في كل صبح مبين!!.

بفضل عظمة المؤمن العظيم، إكتمل الإيلاف الحميم، في قوله "إنما المؤمنون إخوة"... فقرب البعيد القاصي، وتيسر العسير العاصي، فصار معنى الحديث "المؤمن أخ المؤمن" أن الله أخ المؤمن، وما يقال عن المؤمن أخ المؤمن، يقال عن "المؤمن مرآة أخيه" فالإنسان هو مرآة الله، التي يبصر بها وجوده: " كنت بصره الذي يبصر به" ...على هدي هذا الفهم السديد، وعلى ضوء هذا النور المديد، يفتح باب البيت العتيق، ويأتي الناس من كل فج عميق.

"وألف بين قلوبهم"، هذه الآية تشير فيما تشير إلى أن الله وحده هو الذي يؤلف بين الإجزاء المتعادية والمتنافرة في قلب كل إنسان، ولو حاول أحد من الناس ذلك، فإنه لا يستطيع، حتى ولو أنفق أعظم الأنبياء، جميع ما في الأرض من آلاء: " لو أنفقت ما في الأرض جميعا، ما ألفت بين قلوبهم، ولكن الله ألف بينهم"، توليف الأجزاء المتنافرة والمتعادية في قلب كل إنسان، يكتمل أمره، ويعصر خمره، ويضرب زمره، بتقليب قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.

بفضل هذا التقليب، تستقر المشيئة بخلق الإنسان الجديد، بيدي الله "لما خلقت بيدي"، ومن خلق بيدي الله، كان في مقام الإحسان، مقام رؤية الله الذي أحسن كل شئ خلقه، صنع الله الذي أتقن كل شئ، وذلك هو معنى إكماله لديننا، وإتمامه نعمته علينا، ورضائه الإسلام لنا دينا: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا".

ل عارف يعتد بمعرفته، يعيش كل يوم، في فجر هذا اليوم الصادق، مصدقا لوعد الله، واقعا معاشا ملموسا " إنما توعدون لصادق* وإن الدين لواقع" فما يمنع الناس من معيشته كل يوم ، واقعا محسوسا ؟.

الجواب : وجود تصاوير على حواشى القلوب..!!.

هذا اليوم الذي تعيشه، أثناء قراءتك لهذه السطور، هو الصبح القريب الموعود : " إن موعدهم الصبح، أليس الصبح بقريب!!ّ" صبح لا يخبو ضؤه أبد الآبدين، ولكنك لاتكون راهب ديره، إلا إذا كنت عند مطالع خيره،!! نور لا تسطع أنواره، إلا إذا ظهر أخوانه، فهو قد قصر محاسنه على عشاقه، فلا يحازي إلا الموازي، ولا يشرق صباح الله، إلا إذا ظهر عشاق الله من مشارق الغيوب، ثم لاحوا في مطالع القلوب" فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا".

وذلك ظهور باهر، بعرفان زاهر، في بحر زاخر، و يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، ينصر من يشاء، نصرا يؤيد الله به الذين آمنوا على عدوهم : " فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين" هذا هو وعد الله الذي لا يتخلف عن الواقع لحظة واحدة، وإن تخلف عن ذلك علم أهل الظاهر، كما هو مطوي في قول القاهر:" وعد الله لايخلف الله وعده، ولكن أكثر الناس لايعلمون* يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا".

سبحان الله!! جميع الذين آمنوا لهم عدو واحد: " فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم ".. من هو هذا العدو الواحد؟ الجواب: نفسك التي في إهابك، وبين جوانحك... العدو واحد لأن النفس واحدة: " ياأيها الناس إتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة" وقديما قال النبي المعصوم: " أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك" فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون.

سبحان الله!! كيف عميت قلوب أقوام عن هذا الصباح الجميل، الذي أرسل الله فيه السماء مدرارا، فكانت جنات وكانت أنهارا، حتى ظهرت شمس خضر القلوب ، على أرض موسى العقول: " ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء، فتصبح الأرض مخضرة".

لقد رفرف روح الخضر على مجمع البحرين... بحر القلب الباطن و بحر العقل الظاهر، فاتكأ كل عبقري، على خضر قلبه، في مقام الإحسان، مقام رؤية الله: "متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان" ولكن لماذا عميت قلوب الناس عن كل ذلك؟.

الجواب: وجود تصاوير على حواشي القلوب.

سبحان الله..!! لقد فصلت الأعالي من نور الخضر ثياب سندس ألبستها كل عارف: " يلبسون ثيابا خضرا"... ثياب سندس تبرق من شدة لمعان تجليات النور القديم : " عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق".

لقد نبت الخضر في عقول الأنبياء الباطنة، من نفس البذرة الموجودة في عقول الناس الظاهرة: " وجعل فيكم أنبياء" ثم إستوى الخضر على عرش القلوب بصورة متساوية في كل الخلائق، في رحمة وسعت كل شئ: " الرحمن على العرش إستوى".

إستواء ومساواة عجيبة، حتى أنك لو أخرجت كل نبات الدنيا ، لخرج من تحته خضر القلوب : " فأخرجنا به نبات كل شئ، فأخرجنا منه خضرا"

وهذا هو معنى قول السيد المسيح المثبت بإنجيل القديس توماس والذي عثر عليه في جرات مهجورة بنجع حمادي بمصرفي منتصف الأربعينات من القرن الماضي:

I am the all and the all came from me!! And the all will attain to me!! Cleave a piece of wood and I am there!! Lift up the stone and you will find me there.”

وإنجيل القديس توماس، هو أعظم الأناجيل، إذ أن راويه، أحد الحواريين الإثني عشر، وقد روى كلمات المسيح كما سمعها من فمه الشريف ، بلغة أمه العبرية، فنضر الله وجه القديس توماس الذي سمع من نبيه مقالة، فبلغها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع... أما الأناجيل الأربعة الباقية، فهي تحكي قصة السيد المسيح، التي تناقلها الرواة عن الحواريين، عبر الأيام، حتى ظهرت في نهاية القرن الأول، منقحة ومحررة من روايات عديدة ، ومترجمة إلى اللغة الإغرقية.

لكن لماذا لم يسمع الناس بذلك؟؟ الناس ما زالوا ينتظرون ظهور المسيح، ويحلمون بلقاء الخضر، كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ، والماء فوق ظهورها محمول... الرسول فينا ومنا: " كما أرسلنا فيكم رسولا منكم" والمسيح تحت كل حجر، والخضر تحت كل نبات، فما بال وجوه الناس عليها من نفوسهم غبرة، وترهقها من همومهم قترة؟؟.

لماذا لم يخرج الناس في يوم الخروج، وقد ناداهم المنادي من مكان قريب!! ما يمنعهم وما يحبسهم؟؟

الجواب: وجود تصاوير على حواشي القلوب.

سبحان الله..!! في كل أيام الإسبوع السبعة، تنتصر طبول الحرب على رايات السلام، وكلما ظهرت سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، وسبع سنبلات خضر وأخر ياباسات: " يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات، لعلي أرجع للناس لعلهم يعلمون"

الآن، رجع لناس العقل والحواس، من بين المشكاة والنبراس، يوسف الصادق الصديق، متدثرا بقميصه الحادث التليد... الآن تزول كروبك ويرتد بصيرا يعقوبك!!

ومن السنبلات الخضر، يقترن خضر القلوب، بناس العقول في كل يوم من أيام الإسبوع السبعة ، فيستوي كل عارف على براق هذا الظهور، متذكرا لنعمة ربه الذي إستوى عليه، وإنقلب إليه في قران عجيب: " لتستوا على ظهوره، وتذكروا نعمة ربكم إذا إستويتم عليه، وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا، وما كنا له مقرنين* وإنا إلى ربنا لمنقلبون" .

سبحان الله!! من نور خضر القلوب، نبتت أشجار الرضوان الخضراء، فأوقد كل عارف جذوة تأويله، من شجرة رضوانه :" الذي جعل لكم من الشجر الأخضرنارا، فإذا أنتم منه توقدون" ... قوله: "نارا" إشارة لجذوة التأويل، ومن الشرارة يندلع اللهيب، ولكن خيار الناس شكوا وما زالوا يشكون في الجذوة، فقد قالوا:

بين إثنتين أسر أم أبكي قبس اليقين وجذوة الشك

جذوة التأويل هي شرارة قدسية، اندلع منها لهيب نور الله الموقدة، التي تطلع على الأفئدة ، كمشكاة فيها مصباح... المصباح مشتق من صبح الظهور!! ولكن لماذا لم ير الناس هذا النور المنحدر من كل صوب، فملأ المسالك والدروب، حتى ضاقت به الآفاق؟

الجواب: وجود تصاوير على حواشي القلوب.

الآن ، لقد حق لك أن تسألني ما هذه التصاوير؟ وما هي حواشي القلوب؟

قبل محاولة الإجابة، لابد من تقرير مسائل، يهمني تقريرها، ولا بد من الخوض في بعض الأصول، عسى أن تأتي الإجابة في طيات تلك المسائل، وتحت ظلال تلك الأصول.

المسألة الجوهرية: لقد سلك البشر طريقا خاطئا منذ أن وجدوا أنفسهم على ظهر هذا الكوكب!!

يخطئ من يظن أن أزمة العالم ترجع جذورها إلى القرن العشرين، أو إلى القرون التي سبقته... ويخطئ من يظن أن مأساة السودان - والتي هي جزء لا يتجزأ من الأزمة العالمية - قد خلقها نظام الإنقاذ الراهن، والذي يعيش الآن في أخريات أيامه، بإذن الله .

يخطئ من تشغله المظاهر عن الجواهر!! إن مأساة الإنسان عميقة وضاربة الجذور في أرض القدم، منذ سحيق الآماد.

إن بؤس الإنسان الروحي وضياعه الوجداني ، أجل وأخطر، من أن ينظر إليه بمنظار الحلول السطحية ، ذات البعد الواحد، والتي لا تتسم بميسم التعمق والتأمل والتي تفتقر إلى مهارات الحذق وأبعاد الذكاء... تلك الحلول التي إفترعها السابقون، وتفنن في إتباعها اللاحقون المقلدون ، كلما دخلت أمة لعنت أختها.

تلك الحلول المتناقضة التي كانت تؤمن ببعض الكتاب وتكفر ببعض... تلك الحلول التي كانت تعالج المظاهر وتغفل الجواهر، فتعمى عن الأصول وتنشغل بالفروع ، صافحة الذكر عن الكليات ، غارقة في الجزئيات، في حجاب مبين : " وجعلوا له من عباده جزءا، إن الإنسان لكفور مبين"، لقد سلك الإنسان طريق الخطأ ، طريق الخسران المبين، في نفس اليوم، الذي قتل فيه قابيل أخاه هابيل، وبذلك ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس. وقد ترتب على ذلك الخطأ الماحق، عواقب وخيمة، أعي تداركها حكمة كل حكيم وفكرة كل مفكر عبر العصور.

ماذا ترتب على قتل قابيل لأخيه هابل؟.

منذ ذلك اليوم الكالح، ترسب في ضمير البشر ، قويهم وضعيفهم، أن القوة تصنع الحق، وان المادة هي كل شئ... منذ ذلك اليوم ترسب في ضمير الأقوياء منا، أن القتل يجعلك تستولي على مال أخيك، وأنت مستيقن أن الموتى كلهم مثل هابيل لن يعودوا أبدا، ليستعيدوا حقوقهم السليبة.

منذ ذلك اليوم الكالح، ترسب في ضمير البشر، أن وشائج القربى أمر لايأبه له، وإنما يؤبه لما نظنه مصلحتنا والفائدة التي تعود إلينا، تحقيقا لرغائب نفوسنا،ولذلك فإنه يجوز للإنسان القوي أن يقتل أخاه الضعيف ... وبالمثل فقد ترسب في ضمير الضعفاء منا ، أن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، فالمادة هي كل شئ... هكذا ترسب في عقول الأقوياء والضعفاء الخوف وأبناؤه الشرعيون الطمع والحسد والحقد والضغينة والمكر والخديعة، وما يستتبع ذلك من بطش وفتك، وقتل ذريع.

منذ ذلك اليوم الكالح، اختار الإنسان طريق الكفر والحجاب، وأدار وجهه لطريق الشكر والصواب " إنا هديناه السبيل ، إما شاكرا وإما كفورا" ويستثنى من ذلك الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ماهم... إنهم القلة القليلة، من بني آدم، التي عصم الله عقلها، فيممت وجها شطر قلبها، وجعلت بيوتها قبلة الشكر: " وقليل من عبادي الشكور".

إن العارفين المحققين لا يزالون يذكرون ذلك اليوم الرهيب، فهم ما زالوا يذكرون تفاصيله الموجعة، مثلما تذكر أنت تفاصيل الأمس القريب، بل أشد ذكرا، فهو محفور في حواشي القلوب، في واد مجدب يباب، لاتجري في شعابه إلا دماء هابيل ودماء من لحقه من أبنائه بأيدي إخوتهم.. !!.

دماء عجز عن غسل ادرانها من وجه البسيطة، تدفق طوفان نوح العظيم ... لست أدري هل نتأمل في كل ذلك..!!.

الربانيون منا لم ينسوا ذلك اليوم الرهيب: " وما كان ربك نسيا".. فكل أخبار القرون الأولى، وبالذات قصة قتل النفس التي حرم الله، ما زالت مسطورة ومقروءة : " قال فما بال القرون الأولى* قال : علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى" وكل من قرأ كتاب الوجود، بقراءة الربانيين، لم ينس أيضا: " سنقرئك فلا تنسى" ... الآن أريد أن أتلو عليك نبا أبني آدم بالحق، فماذا بعد الحق إلا الضلال!! فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ، ثم إنا علينا بيانه.

لست أدري إلى أي مدى يتذكر قراؤنا الكرام ذلك اليوم الرهيب، يوم كان جدنا هابيل، يمد يده السمحاء البيضاء ، لجدنا قابيل، متوسلا إليه برحم أمهما حواء قائلا : " لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك"

لقد كان هابيل عارفا، يدرك علاقة الأخوة التي تربطه بأخيه، وكان يريد لأبنائه من بعده أن يدركوا هذه العلاقة، و يسيروا في طريق التقوى، فتودد إلى أخيه بقول الله الذي أجراه على لسانه: " إنما يتقبل الله من المتقين" .

كل ذلك لم يوقظ شيئا في عقل قابيل، فلم يتذكر ولم يخش... فطوعت له نفسه قتل أخيه، فقتله فأصبح من الخاسرين، ومنذ ذلك اليوم فارق الناس طريق التقوى وسلكوا طريق الفجور، الذي قاد الناس إلى جحيم الحرب، التي ما غابواعنها في يوم من أيام دين الله، منذ ذلك اليوم الرهيب: " وإن الفجار لفي جحيم * يصلونها يوم الدين* وما هم عنها بغائبين"

لقد تركت آثار أقدام سير الإنسان في طريق الفجور آثارا مدمرة ، على ضمير الإنسان المغيب ، ووجدانه المحجب، أغلالا وقيودا وأحقادا، ورثناها صاغرا عن كابر، وقد تجلت مظاهر هذه الأغلال في الإقتصاد والسياسة والإجتماع وفي العقائد الدينية، واختفت بطائنها في عقد نفسية مربكة مضطربة ومتناقضة ، إختلط فيها الحابل بالنابل!! إختلط فيها حبنا بكراهيتنا، ورحمتنا بقسوتنا، وقوتنا بضعفنا، وكرمنا بلؤمنا، وتسامحنا بحقدنا، وصلاحنا بفسادنا وحسناتنا بسيئاتنا وخيرنا بشرنا.

من أحشاء ضميرنا الخرب، نشأت فكرة الحرب المنظمة، التي لا يزال أوارها مشتعلا... لقد ترتب على الحرب المنظمة ، وما فيها من فتك وسلب، شرور وبيلة ، وأهوال مريعة، فرقت الإخوة في الإنسانية أيدي سبأ... منذ ذلك التاريخ الموغل في القدم، إختل النسيج الإجتماعي، وتم قهر الفرد البشري وإستغلاله ، قهرا أليما، و إستغلالا شنيعا، حتى صارالفرد مجرد أداة من أدوات الحرب، يسحق ويقتل ولا يبقى إلا الأيتام والأرامل، ونصب الجندي المجهول.

منذ فجر التاريخ البشري، مارس البشر جريمة الحرب، دون أن يخجلوا، أو يرمش لهم جفن، لأنهم لم يشعروا أن الحرب هي عين الفساد: " الا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون" ... وفي ذات الوقت، كانت القوى الملائكية، الكامنة في خبايا قلوبنا، تردد قول الله القديم، الذي يجريه على لسانها في كل حين: " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"

ولكن الناس كانوا ولا يزالون يعتبرون سفك الدماء في الحروب، شرفا ودفاعا عن الأوطان، وزودا عن حياض العقيدة، وإصلاحا للناس... سبحان الله!! الحرب التي هي إفساد في الأرض يسميها عقلاؤنا إصلاحا: " وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض ، قالوا إنما نحن مصلحون"

من بذرة قتل قابيل لإخيه هابيل، نمت شجرة الحرب، الشجرة الملعونة في القرآن، والتي خوفنا الله منها، ولكننا لم نزد إلا طغيانا وسيرا في طريق الحرب: " والشجرة الملعونة في القرآن، ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا"

من أغصان هذه الشجرة الخبيثة، ظهرت الطبقات الإجتماعية والسياسية والإقتصادية، من أقوياء وضعفاء، وأغنياء وفقراء، وسادة وعبيد، وملوك ومملوكين، وساسة ماكرة وشعوب غافلة !!

لم تسلم أدياننا من هذه الطبقية المذلة لكرامة الإنسان، فقد عرفتها جميع الأديان !! فما من دين من الأديان إلا وفيه الوسطاء الذين يقفلون باب الرب الواسع، وبذلك صار إيمان الأكثرية من البشر، ضربا من ضروب الشرك، بل هو الشرك ذاته: " وما يؤمن أكثرهم بالله، إلا وهم مشركون"

ولكن الناس لم يرجعوا عن الطريق الخاطئ

لقد بلا الله الناس بالحسنات والسيئات فلم يرجعوا: " وبلوناهم بالحسنات والسيئات، لعلهم يرجعون" ... عجيب أمرنا نحن البشر، شرنا فتنة وخيرنا فتنة: " ونبلوكم بالشر والخير فتنة"... لقد أحاطت بنا فتن الحروب،إحاطة السور بالمعصم، ولكننا لا نتوب عن الحرب ، ولا نتذكر أهوالها، بل لانرى ذلك أبدا:" أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة، أو مرتين، ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون" ... لهذا السبب العتيد، فإنه لا تجدي معنا أية محاولة للإصلاح طالما كان ضميرنا المغيب، ينطوى على ما إنطوى عليه صدر جدنا قابيل: " ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر*حكمة بالغة فما تغني النذر"

لقد حاول المنذرون من الأنبياء والمصلحين، رد الإنسان عن السير في الطريق الخاطئ، طريق الحرب، ولكن تيار الحرب كان جارفا وعاتيا وكاسحا، حتى إضطر بعض الأنبياء ووبعض المصلحين لخوض غمار الحروب ، بغية الوصول إلى شواطئ السلام، دون جدوى، ولو شاء الله ما اقتتلوا، ولكن الله يفعل ما يريد.

ظلت البشرية سادرة في غيها، وظلت شواطئ الفردوس المفقود الآمنة الوديعة، حلما إنسانيا عزيز المنال... إنه حلم مثل الأفق، كلما إقتربت الإنسانية منه، إستعصم بالبعد عنها!! كل محاولة لإنهاء الحرب، تنتهي بحرب جديدة!!

لقد بذل الأنبياء كل الوسائل، لرد الإنسان لطريق الحق... وسائل الترغيب بجنان الخلود، ووسائل الترهيب بنيران الجحيم، ولكن كل ذلك لم يجد فتيلا... لقد أقام المصلحون الدول ودبجوا الدساتير، وشرعوا القوانين، ونظموا حقوق الإنسان ، إلا أن قابليهم إنتصر على هابيلهم، فتكسرت محاولات السلام، في الصومال وفي العراق وفي أفغانستان بل صار الإرهاب شبحا قائما في كل مكان، لايستثني الدول المتحضرة في أوربا وأمريكا... وحيثما إنتصرت الهدنة، التي نسميها خطأ سلاما، فإنها تكون إنتصرت على جثث الموتى من أخواننا، وعلى دموع اليتامى من أبنائنا، وعلى عويل الثكالى من بناتنا.

أقول قولي هذا وليس غائبا عني، أن جهود الأنبياء لم تذهب سدى، فكلمات الرب لا ترجع إليه فارغة... وبالطبع فإن سبب الإخفاق لا يعود إلى عجز في مقدرات الأنبياء الكرام والمصلحين العظام، وإنما يرجع سبب الإخفاق لك ، ويرجع لي... يرجع لإصرارنا العنيد، نحن البشر على عدم النظر في دواخلنا : " اولم يتفكروا في أنفسهم"... عجيب أمرنا نحن البشر، نبصر الافاق الممتدة بعيدا ، ولكن أنفسنا التي بين جنبينا، هي آخر شئ نفكر في النظر إليه: " وفي أنفسكم أفلا تبصرون"

ويجب أن يكون واضحا، إنه لاتوجد قوة في الأرض ولا في السماء، يمكن أن تنقذ الإنسان، طالما كان الإنسان مصرا، على ألا يغير ما بنفسه: " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".

السر في ختم النبوة وفي ختم الرسالة

لقد اختلف الناس حول هذا الموضوع إختلافا أربك القوى الباطنة في عقولنا، حتى أنه بإنبلاج فجر الرسالة الخاتمة، والنبوة الخاتمة، بمحمد الأمي، إحتار جن العقول فقالوا: " وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض ، أم أراد بهم ربهم رشدا" والآية الكريمة تعني، أنه إذا إنقطع مجي الأنبياء، فإن الناس سوف يتبعون شرور أنفسهم أو يهديهم ربهم رشدا، بدون وصاية الرسل، لأن الرشيد لا وصاية عليه، ولا قوامة عليه من أحد.

وفيصل القول، أن النبوة ختمت ، وأن الرسالة ختمت، فلم يبق أمر مستأنف إلا فهم النبوة وفهم الرسالة، ثم تجاوز قشرتهما، وإتباع جوهرهما، حتى يصير كل جزء مبعثر فينا، وحدة مجتمعة مع نبينا : " فمن تبعني فإنه مني".

النبوة والرسالة، مرحلتان هامتان ، تمثلان الوصاية الروحية على العقل البشري ريثما ينضج ويستقر ... فإذا نضج العقل وأستقر مكانه يرى الله: " فإن أستقر مكانه فسوف تراني" ... بفضل رؤية الله، نتذكر قصة الحياة التي نسيناها جميعا!! وما التأويل إلا تذكرنا لهذه القصة: " يوم يأتي تأويله، يقول الذين نسوه من قبل" نتذكرها في حرية وأصالة، دون وصاية أو سيطرة من نبي أو ولي: " فذكر إنما أنت مذكر* لست عليهم بمسيطر"

العقل الناضج، هوعقل أشرقت أرضه بنور الحق... بفضل نور الحق يعرف العقل دروب ضلال نفسه، ودروب هداها، دون وكالة من نبي أو ولي: " قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم، فمن إهتدى فإنما يهتدى لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها، وما أنا عليكم بوكيل".

الحكمة في ختم النبوة والرسالة، أن العقل البشري، قد سار في طريق النضج، وأصبحت له المقدرة على مواجهة النور، وحل مشاكله الجماعية والفردية، دون وصاية من أحد، إذ لا وصاية على رشيد... الله يتولى هداية خلقه، بنفسه وبذاته العلية عندما ينضج العقل البشري ويستوي على الجادة، وغني عن البيان أن الهدى وثيق الصلة بالسلام: " والسلام على من إتبع الهدى" وهذا هو السر، في أن دعوة السلام والهدى ، يكون الداعي فيها إلى الله، الله نفسه: " والله يدعو إلى دار السلام، ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم* للذين أحسنوا الحسنى وزيادة" للذين أحسنوا ، إشارة إلى المحسنين الذين يتلقون من الله كفاحا، دون وساطة الأنبياء.

ويجب أن يكون واضحا، أن الهدى الحقيقي هو أمر اختص الله به ذاته العلية ، فالهدى هو هدى الله، كما هو مبسوط في عديد المواضع في القرآن الكريم!! وعلى الله وحده، يقع الهدى في الدنيا وفي الآخرة: " إن علينا للهدى* وإن لنا للآخرة والأولى" فالهادي هو الله، أولا وأخيرا، والهادي هوإسم من أسماء الله الحسنى، ولذلك فإن النبي الكريم ليس مكلفا بهداية الناس: " ليس عليك هداهم " ولو دعاهم إلى الهدى لما سمعوا: " وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا".

أقرأ مرة أخرى : " وما أنا عليكم بوكيل" ثم لاحظ أن الآية الكريمة تخاطب الناس عامة، ولا تخاطب قبيلا من المؤمنين أو المسلمين، إذ أن نعمة العقل الناضج المستنير، هي نعمة مشتركة، بين البشر جميعا، الذين خلقهم خالقهم في احسن الصور :" وصوركم فأحسن صوركم" " الذي أحسن كل شئ خلقه" ولذلك فإنه تكمن في أي دماغ بشري مقدرات هائلة، ولكن غطت عليها تصاوير شتى ، هي موضوع هذا المقال.

إذن معرفة التصاوير التي على حواشي قلوبنا، لا تحتاج لنبي جديد، ولا لرسول جديد، بل ولا ولي جديد!! وإنما تحتاج لأن نتدبر ونتذكر ونتفكر ونتأمل في إنفسنا، ثم ننظر في كل ما جاء به الأنبياء والمرسلون والأولياء!!.

إذا تم لنا التدبر والتذكر والتفكر والتأمل ، أدركنا أن ما جاء به الأنبياء والمرسلون والأنبياء مطوي في جوانحنا : " وفي أنفسكم أفلا تبصرون"... وكل من أبصر ذلك ، كان الله كذلك: " قالوا جزاؤه !! من وجد في رحله فهو جزاؤه" ومن حسن حظنا العظيم، أن لكل إنسان من الناس بصيرة ، مستقلة عن وكالة وسيطرة أي نبي أو ولي، تبصر ذلك... بصيرة ترسل النور في سرداديب النفس: " بل الإنسان على نفسه بصيرة".

بصيرة أبدية لا يدركها موت أوفناء، ولا تغيب شمسها عن الناس أبد الدهر حتى لو إعتذر الناس عن رؤيتها بمعاذير الكسل والعجز، فإن الله لا يأذن لهم: " ولا يؤذن لهم فيعتذرون".

فلا تحرك لسانك بالقرآن لتتعجل حفظه، فإن ربك قد جمعه في قلبك... فإذا تتبعت قراءة ربك لقرآنك ، تجد أن ربك يبين القرآن، بنقل آياته من قلبك ببصيرة عقلك، في شكول آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم، حتى يستقر بيانها في لسانك في كل حين، وفي كل آن : " بل الإنسان على نفسه بصيرة* ولو ألقى معاذيره* لا تحرك به لسانك لتعجل به* إنا علينا جمعه وقرآنه* فإذا قرأناه فاتبع قرآنه* ثم إنا علينا بيانه"

وقد أثم عامة المسلمين إثما فادحا ، عندما ظنوا- وأوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا- أن أمور الوحي تخص النبي الكريم وحده، ولكن الظن لا يغني من الحق شيئا، بل إن الظن إثم محقق عندما يكون جزئيا مبعضا: " إن بعض الظن إثم".

كل من تحقق من الحق الذي جاء للناس في القرآن: " قل ياأيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم" قال بقولنا، ولن يجد أحد أي برهان إلا هذا النور المبين، النازل في كل المنازل : " ياأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا" ... بقي أن تعلم أن بيان الكتاب المذكور في قوله: " ثم إنا علينا بيانه" ملازم لهذا النور ملازمة الظل للأصل، لأن هذا النور إنما يجئ من الله: " قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين"... هذا هو الذي جعلني أجزم بكل ما جزمت به ، فلا يستخفنك الذين لا يوقنون، لقد قلنا إن رؤية التصاوير على حواشي القلوب تحتاج إلى التدبر والتذكر والتفكر والتأمل، فما هو التدبر، وماهو التذكر ، وما هو التفكر، وما هو التأمل؟.

تدبر وتذكر وتفكر وتأمل

أولا : التدبر

إن المعنى القاموسي الحرفي للفعل دبر، يعني جاء بعده أو خلفه، وهو معنى طيب في سبيل ما نحن بصدده، من النظر في دواخل عقولنا، ومراقبة مجرى مسارب الأفكار التي تجوس خلال أعماق أدمغتنا.

ولعل القارئ قد لاحظ أن الأفعال الأربعة: ( تدبر وتذكر وتفكر وتأمل) والتي نحن بصدد فحص معانيها، جميعها أفعال ثلاثية مزيدة بحرف التاء، وهذا النوع من الأفعال يفيد في لسان العرب المطاوعة مثل قولهم : كسرت الزجاج فتكسر... ويفيد أيضا الإنتساب مثل قولهم: تنصر زيد أي إنتسب إلى النصرانية.

والمطاوعة للإرادة الإلهية، والإنتساب إليها، هما ركن الدين الركين، وأساس بنيانه المتين، لأن المطاوعة هي الرضا، وإلإنتساب هو التقوى: " أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان".

هذا اليوم الجميل المبارك، الذي عسعس ليله وتنفس صبحه، هو يوم تدبر!! وحيثما كان التدبر، كان ذلك اليوم الجميل المبارك ، هو يوم الله في الأرض، والمشار إليه في لطف بالغ في قوله:" يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون" .

التدبر يعني أن ننظر دوما وأبدا ، في مجرى الفكر في عقولنا، نظرا ثاقبا دائما... نتدبر دون أن نتدخل!! ماذا يجري إذا فعلنا هذا؟ سوف تجد أن جميع أفكارنا تختفي في غيابت جب عميق!! لاتجد شيئا أمامك، فقد إختفى كل شئ... إذا إختفت الأشياء ظهر الله: " حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده"

هذا قول محقق، وعليك الا تمر عليه مرورا عابرا، بل قف عنده طويلا، وتحقق منه ، ولاتنقله عني أو عن غيري، بل جربه بنفسك، واجعله شغلك الشاغل، يتاكد لك صحة كل ما قلته لك، وما قاله العارف النابلسي قبلنا:

وحقق وأقطع الأحبال وامسك دونها حبلي

وسد الباب من غيري وعالج وافتتح قفلي

وإني هدهد الأخبار للقوم الأولى قبلي

ومن قولي أنا أملي وإني فوق ما أملي

عليً الله قيوم بلا شبه ولامثل

وإني ذلك القيوم لما قمت عن حملي

وقد جردت عن ملكي وعن علمي وعن جهلي

أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها!! إذا بلغ التدبر غايته، فإنك سوف تتجرد عن نفسك وتخرج من قيودها، وتكون قيوما سائرا خلف قيوم ، ومحسنا سائرا خلف محسن: "هل جزاء الإحسان إلا الإحسان*فبأي آلاء ربكما تكذبان"

السير خلف الله هو حالة التجرد المرموز إليها في القرآن الكريم، بكلمة التقوى... تلك هي غاية التدبر.. إذا كان الأمر بهذا اليسر فلماذا لانتدبر؟؟ ماذا يمنعك من التدبر، وماذا يمنعني من التدبر؟

الجواب: وجود تصاوير على حواشي القلوب

هذه التصاوير موجودة على شكل أقفال: " أفلا يتدبرون القرآن!! أم على قلوب أقفالها" قفل يعني أغلق.. تدبر عقلك الآن تجده مغلقا مقفولا لا يتصل بقلبك ، ولا يفكر في المعنى الحقيقي لخلق الله للبشر، كيف ومتى ولماذا؟ وماهو إبليس والشياطين والملائكة والجنة والنار، وكيف ومتى ولماذا؟ لا يفكر في المعنى الحقيقي للموت!! القلب المقفول المغلق، يكتفي برواية القدماء، ويمنع صاحبه من التدبر وفحص أحاديث القدماء ببصيرة نقية ورؤية محايدة.

التدبر يقود إلى تتبع آيات الله وعلاماته في الوجود، وهذا يعني الغوص في اللباب.. ومن غاص في اللباب تذكر: " ليدبروا آياته، وليتذكر أولو الألباب"... فما هو التذكر؟

ثانيا: التذكر

الذكر هو العلة في نزول القرآن، أقرأ : " ولقد يسرنا القرآن للذكر، فهل من مدكر" ثم أقرأ: " فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون" ولكن يتذكرون ماذا؟ إن الإجابة على هذا السؤال، تقع في مجال إحدى كبريات حقائق الدين، ولايجيب على هذا السؤال إلا من تدبر... إلا من أدبر ليله وأسفر صبحه:" والليل إذ أدبر * والصبح إذا أسفر* إنها لإحدى الكبر"

قد يقول لك قائل سوف يذكرون الله!! ولكن كيف يذكرون من لايحويه الزمان والمكان؟؟ كيف يذكر المحدود المطلق؟؟ وكيف يذكر الحادث القديم ؟؟ بل كيف تذكر من لم تره أبدا!!

كل من تدبر في خلفيته العقلية، وجد أن جميع أفكاره، تنبع من ذاكرته... انت لا تتذكر إلا ما كنت تعلمه من قبل... ومهما طال عمر الإنسان، فإنه لا يتذكر إلا تجاربه السابقة.

إذن الإنسان بحالته العقلية الراهنة ، لا يتذكر الله، وما ينبغي له وما يستطيع، وإن ذكره الأنبياء بالله العظيم: " وإذا ذكروا لايذكرون" وسبب ذلك أن الإنسان لا يتذكر إلا هذه الذاكرة الموروثة والمكتسبة: " أو لم نعمركم ، ما يتذكر فيه من تذكر"... أنت لاتتذكر إلا ما كنت تعرف من قبل... أمر في غاية البداهة، ولكننا قوم ذهلنا عن الأمور البديهية!!

إذن المطلوب هو أن تعرف نفسك... المطلوب أن تتذكر نفسك... من ههنا فإنك سوف تستطيع أن تفهم القرآن فهما أحسن من ذي قبل... تستطيع أن تعقل قوله: " لقد أنزلنا إليكم كتابا، فيه ذكركم، أفلا تعقلون"... إذا تذكرت نفسك، فإنك سوف تعلم أن قصة حياتك هي نفس قصة الذين كانوا قبلك ، ونفس قصة الذين جاءوا معك: " هذا ذكر من معي وذكر من قبلي".... على جبين كل إنسان مكتوبة قصة الإنسانية جمعاء، فالفرد البشري يحكي قصة النوع البشري.

إذن جميع القصص الواردة في القرآن هي قصة واحدة، وإن إختلفت تفاصيلها وأدوارها ... قصص القرآن معبر لمعرفة قصة نفسك التي بين يديك، ويدرك هذا كل لبيب:" " لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ، ما كان حديثا يفترى، ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شئ "... هذا يعني فيما يعني أن دم هابيل ، هو دم قابيل، وأن قابيل لم يسفك إلا دمه: " وإذ أخذنا ميثاقكم ، لا تسفكون دماءكم" قال دماءكم ولم يقل دماء غيركم.

فإذاعبرت جميع القصص ، فإنك تتجاوز نفسك، وتعلم أن النفس ليس لها وجود ، وليس لها كيان، نفسك ليست سوى واحدة من تلك القصص التي تجاوزتها: " أو لايذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل، ولم يك شيئا"... تذكر هذه الآية ، وأقرأها في نفس واحد مع قوله: " حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، ووجد الله عنده".

بفضل الفناء المحض المذكور في الآيتين تدرك أن النفس واحدة، هي نفسه تبارك وتعالى: "يا ايها الناس ، إتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء" و خلق منها زوجها ، إشارة إلى تعدد النفس الواحدة في كل الرجال وفي كل النساء، وبفضل هذه الزوجية يكون الذكر: " ومن كل شئ خلقنا زوجين، لعلكم تذكرون" ولكننا قليلا ما نتذكر، أن نفوسنا تجئ من الماء وتذهب كالهواء!! ولكننا قليلا ما نتذكر، انه لا توجد في حقيقة الأمر نفس مع نفس الله: " أأله مع الله قليلا ما تذكرون" وقد رمز إلى النفس بكلمة " إله" لأن النفس هي إله كل من لم يتجاوزها: " أرايت من إتخذ إلهه هواه"

بين فكي هذا الفناء المحض، المعبر عن إنسانه بقوله " لم يك شيئا" وعن إلهه بقوله " ولم يجده شيئا" تنسى نفسك التي ما فتأ عقلك يذكرك بها في كل يوم، فيقوم على أنقاض هذا النسيان بنيان الفتح، في كل أبواب عقلك، بلا كيفية، وبلا إرادة منك: " فلما نسوا ما ذكروا به، فتحنا عليهم أبواب كل شئ" ولا يوجد أحد هنا ليصف لك ماذا تذكر؟ هنا وهنا فقط تذكر الله ويذكرك الله جزاء وفاقا: " فاذكروني أذكركم" فيطمئن قلبك بذكر الله لك:" الا بذكر الله تطمئن القلوب".

ويكون ذكرالله بجميع الكيفيات ، وفي جميع الأوقات، بلا غفلة عنه !! فإذا غفلت بفعل غواشي الجبلةالبشرية، فإنك تتفكر في خلق الله للسموات والأرض: " الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ، ويتفكرون في خلق السماوات والأرض"

إذن الذكر ينتهي بك إلى التفكر، فماهو التفكر؟؟

ثالثا: التفكر

قلنا إن القرآن قد أنزل من أجل الذكر، وقد بينا قبل قليل، طرفا من معنى الذكر، ونزيد الآن ونقول، إن الله لم يضرب في القرآن من كل الأمثال،إلا من أجل هذه الغاية السامية، غاية أن نتذكر : " ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون" ولكن الناس لم يتذكروا ما صرفه لهم ربهم، تصريفا بليغا واضحا.

لماذا لم يتذكر الناس؟

الجواب: لأنهم كانوا ومازالوا يجادلون ربهم: " ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل، وكان الإنسان أكثر شئ جدلا"... وكان الإنسان أكثر شئ جدلا يعني ان الأنسان هو مجرد شئ من ضمن الأشياء، ولكنه أكثر شئ من الأشياء جدلا لربه، وذلك لعمري مدح في قالب ذم، بل أبلغ المدح ، في أعظم الذم، وما يعقلها إلا العالمون.

وأحب أن أنوه في هذا المقام الأسنى ، والمورد الأحلى ، أن جميع الأنبياء المذكورين في القرآن ، إبتداء بآدم الأب الجسماني، وإنتهاء بمحمد الإبن الروحاني، قد ذكروا على سبيل ضرب الأمثال، ليتذكر الناس مثليتهم لهم: " إنما أنا بشر مثلكم" ثم ليتجاوزوا مثليتهم للإنبياء إلى الله الذي وراء الأنبياء، ووراءك وورائي: " والله من ورائهم محيط".

فإذا قام الناس بالله، كانوا هم هو: " إن تكن بالله قائم لم تكن، بل أنت هو... أنت ظل الغيب من أسمائه والشمس هو"... وهذا طرف من معنى القيامة المبثوثة أخبارها في القرآن الكريم، بل إن القرآن ينتهي هداه في هذه القيامة ، عندما نتذكر الله: " إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم" ومن التي هي أقوم، أشتق الصراط المستقيم، فالحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم.

فآدم مجرد مثل وعيسى مجرد مثل... وهو مثل واحد في المضمون، وان إختلف في الشكل: " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم" وما يقال عن المثل العيسوي والمثل الآدمي، يقال عن سائر البشر... فأنت آدم وأنت عيسى، في شكل جديد!! وأنا آدم وأنا عيسى في شكل جديد!! قد يبدو هذا الكلام غير معقول، ولكنه الحق الذي يعقله كل عالم بحقيقة الأمر: " وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون"

ونعود فنقول :من أجل ماذا أنزل الذكر؟

الجواب : الذكر أنزل من أجل الفكر: " وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون" ...والسؤال الحقيقي ليس : فيما ذا يتفكرون ؟ وإنما: كيف يتفكرون؟؟

أعلم ، افادك الله، وفتح بيني وبينك بالحق، أن هناك تفكيرا ثنائيا شفعيا، يقوم على زوجية الماضي والمستقبل، وهذا هو حظ البشر جميعا، على تفاوت بينهم في المقدار والدقة، وهناك تفكير فردي وتري، يقوم على الوعي باللحظة الحاضرة، وهذا مقصور معارفه على خيام عقول العارفين بالله: " حور مقصورات في الخيام"

وقد وردت الإشارة إلى اللونين من التفكر في قوله: " أن تقوموا لله مثنى وفرادى، ثم تتفكروا" أن تقوموا لله مثنى ، إشارة للقيامة الصغرى التي يقوم فيها عامة البشر، بالتفكر الثنائي الشفعي، القائم بالماضي والمستقبل، وعليهما وفيهما ، والمرموز إليه في القرآن الكريم، برموز شتى أشهرها كلمة " الدنيا"

قوله: " فرادى" إشارة للقيامة الكبرى ، التي يقوم فيها الذين أنعم الله عليهم من البشر بالتفكر الفردي الوتري القائم باللحظة الحاضرة، وعليها وفيها، والمرموز إليه في القرآن الكريم، برموز شتى أشهرها، كلمة " الآخرة".

والتفكر هو من علوم الآخرة التي يبينها الله لمن يشاء من عباده، فيتفكرون تفكيرا ثنائيا شفعيا في أمور الدنيا، ويتفكرون تفكيرا وتريا فرديا في أمور الآخرة ، كما هو واضح من قوله: " يبين الله لكم الآيات، لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة" .

ولما كانت علوم الآخرة من علوم الإيقان: " وبالآخرة هم يوقنون" كان العلم بتأويل القرآن من علوم الآخرة، التي تظل الدنيا بظلالها الفطرية الوريفة، في حق كل ولي آتاه الله من ملكه العظيم: " رب قد آتيتني من الملك، وعلمتني من تأويل الأحاديث ، فاطر السماوات والأرض، أنت ولي في الدنيا والآخرة"

والغريب أن الآخرة بقيامتها الكبرى موجودة الآن، لأن الآخرة هي اللحظة الحاضرة، الآخرة موجودة الآن لولا أن سلطان الغفلة ، أعمانا عنها ، كما هو واضح في قوله "وهم عن الآخرة هم غافلون"، ولم يكتف علمنا القاصر، بعدم إدراك الآخرة بل شككنا في وجود الآخرة ، واعمانا عنها: " بل إدارك علمهم في الآخرة، بل هم في شك منها، بل هم منها عمون"، وفي تكرار حرف العطف "بل" ثلاث مرات في هذه الآية القصيرة، عذبة الأجراس، من دقائق الأسرار، و لطائف المعاني ، ما يخلب لب كل من أغدق الله عليه بدائع المعارف.. فإن لم يصبك وابل بدائع المعارف ، أصابك طل روائع اللغة، لأن حرف العطف "بل" في لسان العرب، يسلب الحكم عما قبله ويثبته لما بعده.

والأغرب من ذلك أن الدنيا بقيامتها الصغرى غير موجودة الآن ، لأن الدنيا هي ذبذبة عقولنا بين الماضي والمستقبل، وبالطبع فإن الماضي والمستقبل غير موجودين الآن ... وغني عن البيان أن القيامة الكبرى (الآخرة) تشمل القيامة الصغرى (الدنيا) ولكن القيامة الصغرى لاتشمل القيامة الكبرى، لأن الجزء لا يشمل الكل، وهذا هو معنى قوله: " من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه، ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الاخرة من نصيب)... هذا معنى جد ظاهر، ولكننا قوم غافلون.

وسبب الغفلة، أننا لم نحقق، ولم نتحقق من ذكر الرحمن، فقيض الله لنا من شيطان عقولنا قرينا، أنسانا الآخرة الموجودة، وذكرنا بالدنيا المفقودة، أعني أنسانا اللحظة الحاضرة الماثلة أمام أعيننا ، وذكرنا باللحظة الماضية التي فاتت من خلفنا أو اللحظة المقبلة التي لم تأت وما زالت أمامنا "ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين".

وأحب أن أنوه في هذا المقام، أن الفكر الشفعي الثنائي، هو فكر مادي دائري دنيوي، يعيش ليأكل ويأكل ليعيش، ويحي ويموت، ولايخرج من دائرة الثنائية أبدا ، حتى ولو فكر وقدر، فإنه يقتل كيفما قدر: " إنه فكر وقدر* فقتل كيف قدر* ثم قتل كيف قدر" ولا يجدي أن يعيد النظر في الثنائية، لأنها دائرية، قصارا ها التعب والغضب: " ثم نظر* ثم عبس وبسر"، ولا تقل لي إن هذه الآيات قد نزلت في زيد أو عبيد، فكلنا زيد، وكلنا عبيد: " أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم" والبرهو التقوى "ولكن البر من إتقى".

ومما لا ريب فيه أن التفكير الفردي الوتري، ثمرة ذكرالله بلا غفلة عنه، ولذلك فهو ليس فكرا بالمعنى المعروف عن الفكر ، وعن ذلك قال نبي الإسلام العظيم: " تفكر ساعة خير من عبادة سبعين سنة".

فإذا علمت أن الذكر وسيلة التفكر، وأن الصلاة وسيلة الذكر "وأقم الصلاة لذكري" إتضح لك البون الشاسع بين الصلاة التقليدية المعروفة والتفكر بالمعنى الذي ألمعنا له القول آنفا، وقد عبر عن هذا البون الشاسع النبي الكريم بالفرق بين الساعة الواحدة والسبعين سنة، وما هو أكثر من ذلك، ولا ينبئك مثل خبير.

وقد وصف النبي العظيم تلك الساعة بقوله : " لي ساعة مع الله لا يسعني فيها نبي مرسل أو ملك مقرب" وكما هو واضح فإن التفكر بالمعنى الذي عناه النبي محمد هو أمر عزيز، وكنز نفيس، أعظم من رسالات المرسلين وأعظم من نبوات الأنبياء، وأعظم من الملائكة الذين أتوا بالرسالات والنبوات، لأن التفكر هو علم الله المحيط الذي يشيئه الله لكل من شاء مشيئته " ولا يحيطون بشي من علمه إلا بما شاء" التفكر هو القول الثابت في الدنيا والآخرة: " يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة" لأن التفكر هو البقاء في اللحظة الحاضرة... التفكر تقع تخوم بلاده، على سدة عرش الله العظيم.

كل من بلغ مبلغ التفكر، كان دائم التأمل، فما هو التأمل؟.

رابعا: التأمل

التأمل هو حالة الحضور الدائم مع الله بلا غفلة عنه، حضورا تسقط فيه الوسائل والغايات، ويذوب فيه الحادث في القديم، ويتصل فيه روح الله القديم في الإنسان، بذات الله القديمة في الوجود، وليس لسفن العبارة، ههنا نصيب، هذا هو السر، في أن التأمل لم يذكر صراحة وعبارة في آية من آيات القرآن الكريم، رغم انه مذكور ضمنا وإشارة في كل آية من آيات الكتاب العزيز، وخصوصا تلك الآيات التي ظهرت في شكول الحروف المتقطعة في بدايات بعض السور القرآنية، فالقرآن العظيم في كتاب مكنون، أي أن القرآن مخفي في كتابه.

ويمكنك ان ترى التأمل، مشارا إليه في قوله: " المال والبنون زينة الحياة الدنيا، والباقيات الصالحات، خير عند ربك ثوابا، وخير أملا" الخير هوالله: " والله خير" فيصير معنى وخير أملا، والله أملا، وهذا هو التأمل الفردي الوتري، الباقي الصالح، أما المال والبنون زينة الحياة الدنيا، فهي أمور تقع في نطاق التفكر الشفعي الزوجي.

والتفكر الشفعي الزوجي ، إذا أحسن إستقصاؤه، بدون تدخل من نظرياتنا، او نظريات سوانا، فإنه يؤدي في نهاية المطاف إلى العلم بالله، والعلم بالله هو وقود التأمل الفردي الوتري، ولقد وردت الإشارة إلى ذلك في قوله: " ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل ، فسوف يعلمون".

نخلص من كل أولئك إلى أن التدبر والتذكر والتفكر والتأمل، كلها جميعها، تنتهي في حالة التجرد والصمت، المعبر عنها بالتقوى، وتلك هي الحالة الوحيدة التي نشعر بها بوجود تصاوير حول حواشي قلوبنا، لأن الصافي الرقيق ، هو الذي يدري كل ما ينافي الصفا، وقديما قالوا: " فإن من قد رق يدري المنافي" فما هي حواشي قلوبنا وما هي هذه التصاوير؟.

الحواشي

حاشية الكتاب أو الثوب، هي جانبه، وقد عرف الفقه الإسلامي حواشي متون الكتب، التي يكتبها الشراح، على الهوامش... والحواشي من الناس، هم من لا أهمية لهم.

ولا توجد في القلوب تصاوير لأن القلب بيت الرب، وليس للرب صورة. وإنما تقع التصاوير على حواشي القلب، وجوانبه البعيدة، وظلاله النائية عن حرمه الآمن، وسوف يتضح هذا المعنى أكثر عندما نفصل ما نعنيه بالتصاوير، التي هي أكنة حجبت النور ، فلم نفقه عن ربنا: " وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه"

الخلق الأول نقاء لا تشوبه شائبة، وصفاء لاتخالطه صورة

لأنه روح الله المنفوخ فينا، وهذا هو معنى القلب

تأمل مليا قوله: " فإذا سويته ونفخت فيه من روحي" روح الله المنفوخ فينا هو القلب المنقلب إلى ربه ، في كل حين، وما قلوبنا اللحمية التي في صدورنا، إلا دليل وإشارة ، تهدينا إلى القلب الحقيقي الذي لا صورة له، لأنه بيت الله الذي لا صورة له ... وهذا هو معنى قول النبي الكريم: "إن الله خلق آدم على صورته" أي خلقه بدون صورة... وهذا هو الخلق الأول، الذي كان ومازال وسيظل جديدا في كل لحظة : " أفعيينا بالخلق الأول، بل هم في لبس من خلق جديد"

القلب هو الفطرة الأولى التي خلقنا الله عليها، وفطرنا عليها أول مرة، في خلق معصوم عن التبديل والتحويل... خلق لا يقع عليه طمس، ولا يرجسه رجس، لأنه هو عين النقاء وأصل الصفاء، وذلك هو دين الله الحنيف، الذي قامت عليه وجوه الناس جميعا، : "فأقم وجهك للدين حنيفا ، فطرة الله التي فطر الناس عليها ، لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون"

فإن ظن ظان إن فطرة الله قد تغيرت، بتعلق الصور فيها، فليعلم أنه لا يعلم: " ولكن أكثر الناس لا يعلمون" أي لا يعلمون أن الصور تقع حول القلب ، وفي حواشيه، فتخطفنا بعيدا، عن قلبنا الذي يظل حرما آمنا أبدا، وإن كنا لا نرى ذلك: " أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا، ويتخطف الناس من حولهم، أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون " يعني يحتجبون بنعمة الله وروحه المنفوخ فيهم، ثم يؤمنون بالصور الباطلة التي طرأت مؤقتا على الحواشي.

هذه التصاوير هي التي تشكلت منها طبيعتنا الثانية، التي حجبتنا عن قلبنا السليم، وفطرتنا الصافية، ومن ثم حجبتنا عن ربنا، كما هو واضح في قوله: " كلا بل ران على قلوبهم ماكانوا يكسبون* كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون" والرين هو الطبع.. من هنا فإنك تدرك ، أن طبيعتنا الأصلية نقية صافية ، لا دنس فيها، وأن طبيعتنا الثانية، كلها صور إكتسبناها بما جنت أيدينا وبما ورثناه، ومن هنا كانت مؤاخذة الله لنا: " ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم"

إذن فإن معرفة هذه التصاوير وتجاوزها، أمر في أقصى الأهمية، وهوعلى كل، أمر لامعدى عنه، لكل من أراد أن يتخذ لربه سبيلا، فماهي هذه التصاوير؟

التصاوير

تأمل مليا قوله: " وقولهم قلوبنا غلف، بل طبع الله عليها بكفرهم، فلا يؤمنون إلا قليلا" مقروءة مع قوله: " وقالوا قلوبنا غلف، بل لعنهم الله بكفرهم، فقليلا ما يؤمنون"

لقد نفى الله أن تكون قلوب الكافرين غلفا، أي عليها غلاف يفصلها من بارئها... ولو كان على قلوب الكافرين غلاف، لتعطل معنى صفاء القلب، ولذلك فقد كان النفي قاطعا جازما باتا، بحرف العطف "بل" الذي قلنا آنفا، أنه يسلب الحكم عما قبله أي قولهم قلوبنا غلف، ويثبته لما بعده، أي الطبع في الآية الأولى، واللعنة في الآية الثانية.

يلاحظ أن الآية الكريمة قد ساوت بين الطبع واللعنة، مما يدل على أن معناهما واحد.. فماهو معنى الطبع وما هو معنى اللعنة؟

الطبع في لسان العرب يعني التصوير، وقد أستعملت كلمة الطباعة لتعني الكتابة، إصطلاحا بعد ظهور الآلة الكاتبة... أما اللعنة لغة، فإنها تعني البعد. إذن لعنة أبليس المشهورة في القرآن، تعني التصاوير!!

إذن عندما قال النبي الكريم : " لعن المصورون" إنما كان يعني أبالسة العقول، وشياطين الجن والإنس ، الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا بتصوير التصاوير المعنوية التي تبعدنا عن ربنا... وقل مثل هذا المعنى، في الحديث الشريف : " اشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون" والذي فهمه الجهال فهما ذريا، حقر من شان الفنون والعلوم.

إذا فهمت هذا فهما واعيا، وفهمت أن أبليس، هو مكان سحيق في دياجير عقولنا، ظهر لك أن إبليس عقولنا، هو الذي يقلب لنا الأمور، ويضللنا بهذه الصور، في خطوات منظمة، عبر عنها القرآن بخطوات الشيطان ، وحيثما ذكرت كلمة " خطوات" في القرآن ذكر بعدها الشيطان: " يا أيها الذين آمنوا أدخلوا في السلم كافة، ولاتتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين" وحيثما ذكر فعل الماضي " خسروا" في القرآن ذكرت بعده كلمة " أنفسهم" بصورة لاتتخلف : " إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم" لأنها خسارة جماعية مشتقة، من أصلها القديم المكنون في خسارة جدنا قابيل: " فطوعت له نفسه قتل أخيه، فقتله، فأصبح من الخاسرين" وإن اعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك، ولذلك فإن إبليسنا عدو بين العداوة، وتلك الأمثال نضربها للناس ، وما يعقلها إلا العالمون.

ماهي هذه التصاوير؟؟

بادئ ذي بدأ، فإنك لا تشعر بهذه التصاوير، إلا أذا صار قلبك نقيا صافيا، رقيق الحواشي، وقديما قالوا: " فإن من رق يدري المنافي" أي لا يدري الغلظة والصور الكثيفة، إلا من كان رقيقا، مهذب الحواشي لأنه لا يشعر بالضد ، إلا من كان موحدا، ولا يشعر بالدرن، إلا من كان صافيا، ولذلك فإن الله قد نفى عن نبيه صورة غلظة القلب : " ولوكنت فظا غليظ القلب، لانفضوا من حولك" أي لانفضت صور الرقة ، من حواشي قلبك، فإن الضدين لا يجتمعان.

إذن التصاوير ليست أصلية، وإنما هي مكتسبة، عبر رحلة الحياة الشاقة ، فصارت طبيعتنا الثانية التي رانت على حواشي قلوبنا بما كسبناه، وقد سلفت إلى ذلك الإشارة.

طبيعتنا الثانية طبيعة زائغة: "فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم" أي زاغت حواشي قلوبهم عن اللحظة الحاضرة، وتاهت في شعاب صور الماضي والمستقبل، فنسيت التأويل وتشابه عليها بتفسير الظواهر: " واما الذين في قلوبهم زيغ، فيتبعون ما تشابه منه ، إبتغاء الفتنة ، وإبتغاء تأويله"

ولما كان التأويل من علوم الآخرة ، ومن علوم الإيقان، أنكرت قلوب المحجوبين عن الآخرة التأويل: " فالذين لا يؤمنون بالآخرة، قلوبهم منكرة" وإن أنكر الأصوات لصوت الحمير الذين يحملون أسفارا.

ولعلك لمحت الآن شتى التصاوير المطبوعة على القلوب، صور الغلظة، وصور الزيغ، وصور الإنكار المحجبة في أكنة القلوب.

التصاوير مجموعة في الخوف

الخوف هو الآفة التي أيف بها السلوك البشري، فخربت بها قلوب العباد: " وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم" فبما كسبت أيدينا تشكلت طبيعتنا الثانية، من شتى صور المخاوف المطبوعة على حواشي قلوبنا: " لو إطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا"

وصور الخوف شتى لا حصرلها: الخوف من الرزق، الخوف من المرض، الخوف من الجوع والفقر، الخوف من مكائد الأعداء والأصدقاء، الخوف من الفشل، الخوف من الحرب النووية القادمة، الخوف من الكوارث الطبيعية، الخوف من العجز والكسل، وأخيرا الخوف من مصيبة الموت، موتك وموت احبابك.

والغريب في الأمر أنك لا تشعر بصور هذه المخاوف، إلا إذا كنت آمنا، وسبب ذلك، أن خوفك يغمر أمنك، ويجعلك تعيش في دائرة مفرغة، تعمل أعمال الدنيا، تحت ظلال خوفك: " بل قلوبهم في غمرة من هذا ولهم أعمال دون ذلك هم لها عاملون"

الخوف ظلل من النار فوق مستقبلنا، وظلل من النار تحت ماضينا : " لهم من فوقهم ظلل من النار، ومن تحتهم ظلل، ذلك يخوف الله به عباده" ومن هنا كانت صور حواشي قلوبنا واجفة: " قلوب يومئذ واجفة" .

من ظلل نار حواشي القلوب الواجفة، نشأت حمية الجهل: " إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية ، حمية الجاهلية" ومن هذا الجهل، شيد الناس بنيان الشك والريب على حواشي القلوب: " لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم" وسوف يظل الناس، منغلقين في أبنيتهم، يترددون بين شكوكهم ، ما لم يفقهوا: "وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون"

تصاوير متناقضة

نتيجة لتراكم الصور على حواشي القلوب، تورط البشر في التناقض، ولن يزول هذا التناقض، إلا إذا لقينا الله: " فأعقبهم نفاقا في قلوبهم ، إلى يوم يلقونه" الله في قلوبنا، ولكننا لا نقول بقول الله: " يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم" ... فعلى حواشي قلوبنا تجتمع صور الرحمة الرءوفة الأصيلة الواسعة ، وصور الخوف القاسية المبتدعة الضيقة: "وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية إبتدعوها"

لا أريد أن أعدد عليك صور التناقض في حياتنا، فهي عديدة، لدرجة أن الناس لم يشعروا بها، لأن التناقض موجود في كل ما حولنا، من سياسة ومن إقتصاد ومن إجتماع ، ومن حرب ، ومن رعب.

تتبع هذه التصاوير بنفسك، تر حكمة الله، في الحال وفي التو، وقديما قال الصوفي السوداني عبدالقادر ود أبكساوي: " بشوف في التصاوير حكمة القدير"

فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم

لقد دفنت على رمال شواطئ عقولنا، أزمان وأزمان، على مدارج الآماد البعيدة... طول الأمد جعل قلوبنا قاسية: " فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم"... القلب القاسي، قلب عصي جامد يابس ، يصعب تطويعه، فهو قلب فقد المرونة واليسر والسيولة، اولئك المطلوبون، لمجاراة الإرادة الإلهية التي تقع في كل يوم بشأن جديد: " كل يوم هو في شأن" ... القلب القاسي، قلب يرى الدنيا وهو محجوب عن الآخرة، ولذلك فإنه يشمئز ، عندما يذكر الله وحده : " وإذا ذكر الله وحده، إشمأزت قلوب الذين ، لا يؤمنون بالآخرة"

إنها قسوة ، تقشعر منها جلود الذين يخشون ربهم، في ذاتها بذاتها، فيتولد من تجاوزتلك الخشية العرفانية ، نزول القرآن في مرتبة الذكر، وليس وراء ذلك إلا هدى الله: " تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكرالله، ذلك هدى الله يهدي به من يشاء"

فإذا لم يذكر العباد الله ربهم، تتكثف القسوة، وتتصلب القلوب، ويتولى العباد الطريق الخاطئ، طريق النسيان، ولا يجدي أن يذكرهم أحد بالله، وبالقرآن: " وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده، ولوا على أدبارهم نفورا" ... من هذا التولي تتحجر القلوب، كالحجارة أو أشد قسوة، فتصير باردة ، لا تشعر بدفء روح الله، الذي يخفق في جوانحها، بأجنحة من غير ريش!! والعرب تسمي الليلة الباردة ليلة قسية!!

من تراكم ظلمات تلك الليالي القسية، عميت القلوب: " فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور" ... وفي معتكر هذا الظلام، تمكن شيطان العقول، من إلقاء تصاوير التمني في أخلادنا، حتى مرضت قلوبنا، بداء التمني : " ليجعل ما يلقي الشيطان، فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم" وقد وردت هذه الآية الكريمة، في معرض بيان التمني الذي يذهب برسالات الرسل، ويمحق نبوات الأنبياء، ويجعل الرسل والأنبياء عرضة لإلقاء الشيطان، لولا أن يتداركهم إحكام الله لعلاماته: " وما أرسلنا من قبلك من رسول ، ولانبي، إلا إذا تمنى ألقى الشيطان، في أمنيته، فينسخ الله ما يلقي الشيطان، ثم يحكم الله آياته" وإنما كان ذلك كذلك، لأن التمني إعتراض على حكم الله في الوجود، وسوء ظن بالله...ونضر الله وجه السيد الحسن بن علي ، الذي قال: " من وثق بالله، لم يتمن غير الحالة التي، هو عليها"

نتيجة لداء التمني، إحتشدت ، في ظلام تلك الليالي القسية،سبل الناس، وعقائدهم ، بالتصاوير اللاهية، على حواشي قلوبهم: " لاهية قلوبهم" ومن ههنا توهمنا ، أننا فقدنا عقلنا عقل المعاد، فحشر الناس في نار الدنيا، وحل في ديارهم يوم القيامة وهم لا يعلمون... أتدري لماذا؟ لأن عمى القلوب، أورثنا الصمم الروحي، عندما شدت حبال التمني الممدودة، قلوبنا، على أوهام الماضي السحيق، وأحلام المستقبل البعيد : " واشدد على قلوبهم" ومن هذا الشد والجذب، كلت القلوب، وصمت الآذان، وخرست الألسن، فسار الناس على الطريق المعاكس لوجوههم: " ونحشرهم يوم القيامة، على وجوههم ، عميا وبكما وصما "

هذا هو الذي مكن لشيطان العقول،و وجعله يوهمنا وهمنا الأكبر، بأننا نملك كيانات مستقلة، وإرادة بشرية، وأننا فقدنا طبيعتنا الروحية الأصلية الصافية... ولقد نسج شيطان العقول الماكر، أحابيل هذا الوهم عبر القرون، وتفنن في في حبك حياكتها ، ثم نفث في عقدها في خطوات منتظمات ، من الضلال ، والأماني، والأوامر: " ولأضلنهم، ولأمنينهم، ولآمرنهم، فليبتكن آذان الأنعام، ولآمرنهم، فليغيرن خلق الله" ... فليبتكن آذان الأنعام، إشارة للصمم الروحي.

شيطان العقول، المقترن بحواشي قلوبهم، هو صانع الوهم، ويعلم ذلك كل من، وفقه الله و محص ما في قلبه: " وليمحص ما في قلوبكم" ... إذا رأيت صانع الوهم، فهل يستطيع صانع الوهم أن يصنع وهما جديدا؟ اللهم لا.

اتدري لماذا؟ لأنك تكون في حالة مراقبة مستمرة، لصانع الوهم... فإذا أدمنت المراقبة، إختفت جميع التصاوير، ومات العقل موتا معنويا... حينئذ يتولى الأمر صاحب الأمر، فيكون الرقيب الله، جزاء وفاقا:" فلما توفيتني، كنت أنت الرقيب عليهم"

لعلك أدركت الآن، الحاجة الماسة، لإعادة صياغة قلوبنا... فهل إلى خروج من سبيل؟؟

بالإصغاء تعاد صياغة القلوب

قال تعالى: " إن تتوبا إلى الله ، فقد صغت قلوبكما" ولكن عن أي نوع من التوبة تتحدث الآية الكريمة؟ إنها التوبة التي تقتل النفس قتلا معنويا: " فتوبوا إلى بارئكم، فاقتلوا أنفسكم، ذلكم خير لكم عند بارئكم، فتاب عليكم" ... هذا القتل المعنوي، هو الموتة الأولى، التي من ذاقها لا يذوق الموت أبدا : " لا يذوقون فيها الموت، إلا الموتة الأولى"

بالرغم من أن ظلام حواشي القلوب، قد إستغرق نشره ، دهورا دهيرة، ألا أنه من حسن الطوالع، ينجلي في لحظة واحدة، لأن الشمعة الضيئلة، تبدد ظلام الليل البهيم.

إن صور الوهم تزول في نفخة واحدة، تحمل أرض الخوف، مع جبال التمني، فتدكها دكة واحدة، يقع بها الأمر الواقع، المتمثل في كلام الله، من قلبك إلى عقلك، في كل لحظة، ويكون الملك على أرجاء سماء عقلك، التي إنشقت من ظلال قلبك: " فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة* وحملت الأرض والجبال، فدكتا دكة واحدة* فيومئذ وقعت الواقعة* وانشقت السماء ، فهي يومئذ واهية* والملك على أرجائها"

ويسبق النفخ في التصاوير، إرهاصات شتى، تختلف بإختلاف المخاطب، ولكنها تكون في أربع مراحل، تجمل في مرحلة واحدة، وفي وصية واحدة، في خاتمة المطاف.

أول الإرهاصات، أن يشرق عقلك بومضة، تشعر بها ، وتستضئ بنورها، فتسير في أرض جديدة، تعقل فيها بقلبك: " أفلم يسيروا في الأرض، فتكون لهم قلوب يعقلون بها" ... هذه هي الوصية الأولى، التي تنمحي بها خطيئة قابيلك ، بالحق: " ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون".

وثاني الإرهاصات أن يشرق عقلك بومضة، تتذكر بها وطنك القديم الله، فيطمئن قلبك بذكر الله لك : " الابذكر الله تطمئن القلوب" وذكر الله هو الوصية الثانية التي توفي بها بعهد الله، وتجعل عهدك عهد الله، بفنائك عن كل العهود القديمة والحديثة: " وبعهد الله أوفوا ، ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون".

وثالث الإرهاصات، أن يشرق عقلك بومضة، يعظم بها شعورك ، بوجود الله في قلبك: " ذلك ومن يعظم شعائر الله، فإنها من تقوى القلوب"... تلك هي الوصية الثالثة، التي تتبع بها صراط الله المستقيم، لحظة بعد لحظة، وتترك جميع السبل الأخرى: " وأن هذا صراطي مستقيما، فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون"

لقد وردت الوصايا الثلاث، بصورة متتابعة، وبأنغام منسجمة، في فواصل ثلاث آيات عظيمات ، في سورة الأنعام، صورة توجل منها القلوب فتتحرك نحو الله: " والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة"... هذا هو إيمان المخبتين لله: " فيؤمنوا به، فتخبت له قلوبهم" ... ليت شعري: " ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله، وما نزل من الحق؟؟" بلى قد آن.

ورابع الإرهاصات، أن تشهد القلوب الخاشعة، الوصية الرابعة، المدسوسة في بطن سورة الأنعام، والمرموز إليها ب " هذا" لأنها قريبة قريبة: " أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا!!"

بقي أن تعلم أن الوصية مشتقة من وصى بمعنى إتصل، وهذا هو معنى قول النبي الكريم: " خيركم من مات على وصية" أي مات متصلا بالله، ومستمسكا بالعروة الوثقى، لا إنفصام لها.... لهذا السبب العتيد، وردت الوصايا الأربع مجملة وملخصة، في وصية واحدة، مثبتة في جميع كتب الحق الروحانية: " ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ، وإياكم أن اتقوا الله" ... إنها موجودة في جميع الكتب القيمة... ولكن الناس لا يقرأون، ولا يذرون الآخرين يقرأون، وقديما قال السيد المسيح: " أما قرأتم في الكتب... الحجر الذي رفضه البناءون ، صار حجر الزاوية"

التقوى هي خلاصة الخلاصة، ولا مخرج إلا إياها: " ومن يتق الله يجعل له مخرجا" ... التقوى هي حالة البراءة من التصاوير ، والخلو من النقوش... وذلك هو معنى سلامة القلب: " يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم" ... التقوى هي حالة القلب الطاهر من التصاوير: " " ذلكم أطهر لقلوبكم" ... فإذا زين الله الإيمان في قلبك السليم، كان دين الحب دينك القويم: " ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم" ... دين الحب يقبل جميع التصاوير:

أدين بدين الحب، أنى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني

لقد صار قلبي قابلا كل صورة فمرعى لغزلان ودير لرهبان

وبيت لأوثان وكعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآن

قبول جميع التصاوير، هوقبول خطة الله التي رسمها لوجوده، وهو هو الإنسجام مع الإرادة الإلهية... هذا الصنيع هو الذي يجعلك، تفهم رمزية أعيان الوجود، وأسرار طقوس الأديان:

كما طاف خير الرسل بالكعبة التي يقول دليل العقل فيها بنقصان

وقبل أحجارا بها وهو ناطق وأين مقام البيت من قدر إنسان

معرفة الأسرار، تجعل الحب ولها وعشقا، عشقا يهيم فيه الهائم بمحبة الدائم، فسالت أودية بقدرها ... قدر الإنسان المنزه، عن جميع تصاوير الورى:

عشقنا العشق المصفى من تصاوير الورى فاشربوا ياقوم منه، إنه في كل كوب

هذا الصفاء، وهذا النقاء، هو التقوى: " والعاقبة للتقوى" لأن التقوى هي الله العظيم: " وإلى الله عاقبة الأمور" .

أما بعد:

فقد تلا رسول من قلبك اللاهوتي، على عقلك الناسوتي، صحفا مطهرة من التصاوير، فيها كتب قيمة المعايير، فلا تبالي إذا تفرق الذين أوتوا الكتاب من بعد ما جاءتهم البينة، فإن ذلك مكتوب في آيات الكتاب الحكيم، هدى ورحمة للمحسنين، وقد وقع الإذن بها من الله الواحد القهار، وماكان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله، وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله، فاعتبروا يا أولي الأبصار.

الآن، رفعت الأقلام، وطويت الصحف، وقيل يا أرض النفوس أبلعي ماءك، وياسماء العقول أقلعي، وغيض الماء المهين، وقضي الأمر بالتكوين، واستوت على الجودي المتين، وقيل الحمد لله رب العالمين.

بدرالدين يوسف دفع الله السيمت

بدأ كتابته في البحرين في صباح يوم عرفة، الموافق 15 نوفمبر 2010

واكتمل في أيام التشريق من ذي الحجة عام 1431هجرية

ويمكن الوصول إليه في جميع الأوقات على العنوان التالي:

Badreldin_yousif@hotmail.com